.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يبين أن الصِّيَامُ جُنَّة ووجاء

==========================================================

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ).(صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب فضل الصوم) الصيام عبادة يتقرب بها الصائمون إلى ربهم بإمساكهم عن مفطرات منعهم الله عنها في نهار الصيام، وأباحها بعد غروب شمسه إلى أن يبزغ فجر النهار الجديد، فالصائم يدع طعامه وشرابه والرفث إلى نسائه خلال نهار الصيام، وإذا ما حل غروب الشمس، أبيحت له هذه المحظورات، عملاً بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(البقرة:187)
الإمساك عن مفطرات مباحة في أصلها
الملاحظ أن المفطرات التي يمسك عنها الصائم في أصلها مباحة، لكن مبدأ لزوم الطاعة المطلقة لله اقتضى أن يكف الصائم عنها حيث أمره الله بذلك، ثم يعود للتمتع بإباحتها بعد انقضاء المدة الزمانية التي شملها الحظر، وهي من بزوغ الفجر وحتى غروب الشمس، في النطاق اليومي، وفي النطاق الزماني الواسع، فإن الحظر المحدد يشمل أيام شهر الصيام، وكل يوم ينوي فيه المسلم التقرب إلى الله بصوم آخر، والإباحة تشمل ما عدا ذلك من الأيام، ومن الجدير التذكير بأن المحظورات السلوكية الدائمة؛ كفواحش القول والعمل، تحظر دائماً طيلة الفترات الزمانية، ومنها فترات الصيام، والكف عنها في فترات الصيام يكون أحرى وأجدر، وقد لفتت الأنظار إلى خطورة ارتكاب تلك المحظورات من قبل الصائمين، لأنها تتناقض مع روح الصيام ومقتضياته، ويمكن الوقوف عند بعض الأدلة التي عنيت بربط الصيام بسلوك العابدين، على النحو الآتي:
الصِّيَامُ جُنَّةٌ
حث النبي، صلى الله عليه وسلم، في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، المثبت نصه أعلاه الصائمين على التحلي بقيم وأخلاق نبيلة تنسجم مع روح الصيام، فالصائم لا يرفث ولا يجهل، بل يبلغ حثه على التحلي بالقيم الأخلاقية أن طلب منه إذا اعتدي عليه بمسبة أو شتيمة أن يرد بقوله: (إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ) جاء في شرح هذا الحديث الشريف أن الرفث في قوله: (فلا يرفث) الفحش والخنا، و(الجهل) ما لا يصلح من القول والفعل، وهو السفه.
قال المهلب: واختلف أهل العلم في معنى قوله: (فليقل: إني صائم) فقيل: يقول: إني صائم، للذي يشاتمه، ليكف عن شتمه، واستدل بعضهم بقول مريم: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) [مريم: 26]، فكان حكم الصيام عند مريم وأهل زمانها أن لا يتكلموا فيه، وكان هذا متعارفًا عندهم. وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أبلغك أنه يؤمر الإنسان إذا دعي إلى طعام أن يقول: إني صائم؟ قال: سمعنا أبا هريرة يقول: إذا كنت صائمًا، فلا تساب ولا تجهل، فإن جهل عليك فقل: إني صائم، وقاله قتادة، والزهري.
وقالت طائفة: معنى قوله: (فليقل: إني صائم) أي يذكر نفسه بذلك، ولا يجهر به، ولا يراجع به من سبه؛ لأنه إذا تكلم به، فقد أظهر نيته، وربما دخل فيه الرياء.
وقوله: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ) أي ستر من النار، ومنه قيل للترس: مجن؛ لأن صاحبه يستتر به.(شرح صحيح البخاري لابن بطال: 4 /8-9)
وَقَالَ ابن الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا كَانَ الصَّوْمُ جُنَّةً مِنَ النَّارِ لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَالنَّارُ مَحْفُوفَةٌ بِالشَّهَوَاتِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِذَا كَفَّ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ فِي الدُّنْيَا كَانَ ذَلِكَ سَاتِرًا لَهُ مِنَ النار في الْآخِرَةِ.(فتح الباري لابن حجر:4/104)
تنافر مثالب السلوك والصيام
عينت بعض الأدلة أنواعاً معينة من مثالب السلوك التي يقبح بالصائم ارتكابها، ومن ذلك قول الزور والعمل به، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ).(صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور، والعمل به في الصوم)
وذكر قول الزور والعمل به هنا ليس على سبيل الحصر، والله تعالى أعلم، وإنما هو على سبيل المثال للمعاصي لا الحصر، وجاء في شرح هذا الحديث الشريف أن قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لَمْ يَدَعْ) أَيْ يَتْرُكْ (قَوْلَ الزُّورِ) أَيِ الْبَاطِلَ، وَهُوَ مَا فِيهِ إِثْمٌ، وَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الزُّورُ الْكَذِبُ وَالْبُهْتَانُ، أَيْ مَنْ لَمْ يَتْرُكِ الْقَوْلَ الْبَاطِلَ مِنْ قَوْلِ الْكُفْر، وَشَهَادَةِ الزُّور،ِ وَالِافْتِرَاءِ وَالْغِيبَةِ، وَالْبُهْتَانِ وَالْقَذْفِ، وَالسَّبِّ وَالشَّتْمِ وَاللَّعْنِ، وَأَمْثَالِهَا، مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ اجْتِنَابُهَا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ ارْتِكَابُهَا (وَالْعَمَلَ بِهِ) أَيْ بِالزُّورِ؛ يَعْنِي الْفَوَاحِشَ مِنَ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّهَا فِي الْإِثْمِ كَالزُّورِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ.
(فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ) أَيِ الْتِفَاتٌ وَمُبَالَاةٌ، وَهُوَ مَجَازٌ عَنْ عَدَمِ الْقَبُولِ يَنْفِي السَّبَبَ، وَإِرَادَةَ نَفْيِ الْمُسَبِّبِ (فِي أَنْ يَدَعَ) أَيْ يَتْرُكَ (طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) فَإِنَّهُمَا مُبَاحَانِ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِذَا تَرَكَهُمَا وَارْتَكَبَ أَمْرًا حَرَامًا مِنْ أَصْلِهِ اسْتَحَقَّ الْمَقْتَ، وَعَدَمَ قَبُولِ طَاعَتِهِ فِي الْوَقْتِ، فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ تَرْكُ الْمَعَاصِي مُطْلَقًا لَا تَرْكًا دُونَ تَرْكٍ، ولَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْقَبُولِ عَدَمُ الصِّحَّةِ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ، قَالَ الْقَاضِي: الْمَقْصُودُ مِنَ الصَّوْمِ كَسْرُ الشَّهْوَةِ وَتَطْوِيعُ الْأَمَّارَةِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلُ مِنْهُ ذَلِكَ لَمْ يُبَالِ بِصَوْمِهِ، وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهِ نَظَرَ عِنَايَةٍ، فَعَدَمُ الْحَاجَةِ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الِالْتِفَاتِ وَالْقَبُولِ، وَكَيْفَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ وَالْحَالُ أَنَّهُ تَرَكَ مَا يُبَاحُ مِنْ غَيْرِ زَمَانِ الصَّوْمِ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَارْتَكَبَ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ؟!
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَذِبَ وَالزُّورَ أَصْلُ الْفَوَاحِشِ، وَمَعْدِنُ الْمَنَاهِي، بَلْ قَرِينُ الشِّرْكِ، قَالَ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}[الحج: 30] وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الشِّرْكَ وَالزُّورَ مُضَادٌّ لِلْإِخْلَاصِ وَالصَّوْمُ بِالِاخْتِصَاصِ فَيَرْتَفِعُ بِمَا يُضَادُّهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنْ يَتَأَكَّدَ اجْتِنَابُ الْمَعَاصِي عَلَى الصَّائِمِ كَمَا قِيلَ فِي الْحَجِّ، لَكِنْ لَا يَبْطُلُ ثَوَابُهُ مِنْ أَصْلِهِ، بَلْ كَمَالُهُ، فَلَهُ ثَوَابُ الصَّوْمِ، وَإِثْمُ الْمَعْصِيَةِ. (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح:4 /1388)
الصوم وِجَاءٌ
علاقة الصوم بالسلوك وثيقة، فهو يهذبه ويمنع صاحبه من موبقاته، وفي الوقت نفسه فإنه يساعد في علاج تأجج الغريزة، حيث أرشد النبي، صلى الله عليه وسلم، من لم تتح له فرصة الزواج وإمكاناته بأن يلجأ للصوم، فعَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي، مَعَ عَبْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (مَنِ اسْتَطَاعَ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ).(صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة)
يبين الإمام العيني في شرحه لهذا الحديث الشريف، أن الِاسْتِطَاعَة هُنَا عبارَة عَن وجود مَا بِهِ يتَزَوَّج، وَلم يرد الْقُدْرَة على الْوَطْء، هذا على رأي القرطبي، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَتَقْدِيره من اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْجِمَاع لقدرته على مُؤَن النِّكَاح فليتزوج، وَمن لم يسْتَطع الْجِمَاع لعَجزه عَن مؤنه فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ. وقَوْله: (الْبَاءَة) الْحَظ من النِّكَاح، وَعَن ابْن الْأَعرَابِي: الْبَاء والباه والباهة: النِّكَاح. وقَوْله: (فَإِنَّهُ) أَي: فَإِن التَّزَوُّج، يدل عَليّه قَوْله: (فليتزوج) وقَوْله: (أَغضّ) أَي: أدعى إِلَى غض الْبَصَر. (وَأحْصن) أَي أدعى إِلَى إِحْصَان الْفرج. وقَوْله: (فَإِنَّهُ) أَي: فَإِن الصَّوْم لَهُ؛ أَي للصَّائِم. (وِجَاء) بِكَسْر الْوَاو وبالمد، وَهُوَ رض الخصيتين، وَقيل: هُوَ رض الْعُرُوق، والخصيتان بحالهما.
وممَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الْخطابِيّ: وَفِيه: دَلِيل على جَوَاز المعاناة لقطع الْبَاءَة بالأدوية، لقَوْله: (فليصم).
وَفِيه: أَن الصَّوْم قَاطع لشَهْوَة النِّكَاح، وَاعْترض بِأَن الصَّوْم يزِيد فِي تهييج الْحَرَارَة، وَذَلِكَ مِمَّا يثير الشَّهْوَة، وَأجِيب: بِأَن ذَلِك إِنَّمَا يَقع فِي مبدأ الْأَمر، فَإِذا تَمَادى عَلَيْهِ واعتاده سكن ذَلِك، وشهوة النِّكَاح تَابِعَة لشَهْوَة الْأكل، فَإِنَّهُ يقوى بقوتها، ويضعف بضعفها.
وَفِيه: الْأَمر بِالنِّكَاحِ لمن اسْتَطَاعَ وتاقت نَفسه، وَهُوَ إِجْمَاع، لكنه عِنْد الْجُمْهُور أَمر ندب لَا إِيجَاب، وَإِن خَافَ الْعَنَت كَذَا قَالُوا.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري:10/278-279)
فالجُنَّةُ والوِجَاءُ من ثمرات الصيام وفوائده الجمة، وذكرهما يشير إلى عمق الصلة بين العبادة وسلوك العابدين، فاستقامة السلوك من متطلبات حسن التعبد لله، إذ لا انفصام بين سلوك العابد وعبادته، فلا رفث في الصيام ولا في الحج، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
راجين الله أن يوفقنا لحسن الصيام والقيام، وأن يتقبلهما منا، وأن يجمع أمرنا وشملنا وقلوبنا على حب دينه والعمل بكتابه العزيز، وسنة نبيه محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
12 رمضان 1445هـ

تاريخ النشر 2024-03-22
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس